بين أسامة بن لادن و عبدالرحمن السميط

هذا المقال يستخدم أسامة ابن لادن كرمز و هو موجه لمن يتقارب معه في فكره. أرجو قراءته بعقل منفتح و بدون أحكام و تحيزات مسبقة. و يناقش المقال تطرف السلوك و آثاراه من ناحية براغماتية نفعية على المسلمين.

عشرون سنة مضت على هجمات 11 سبتمبر، و 10 مضت على مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. و ثمان سنوات مضت على وفاة الدكتور عبدالرحمن السميط. تلك الحادثة و هذين الاسمين أثرا على المسلمين و تاريخهم القريب بشكل لا يمكن تجاهله.

إسقاط الولايات المتحدة الأمريكية


أسامة بن لادن، الثري صاحب المليارات (تلك الأموال التي جاءت من مشاريع أوكلتها الدولة السعودية التي يصفها بالكافرة لوالده، و تلك الأموال حصلت عليها الدولة من النفط الذي قام باستخراجه الشركات الأمريكية التي قتل ابن لادن بعض موظفيها في السعودية)، أسامة الذي اختار مساعدة الأفغان إنسانيا في حربهم ضد السوفييت ثم انخرط معهم في الحرب (برنامج الصندوق الأسود، تركي الفيصل). و بعد هزيمة السوفييت، تزايدت طموحاته و حاول مرارا مع رؤساء الدول خصوصا في السعودية أن تنحي منحنا جديدا في مواجهة الغرب، و لم تثنه ردود علماء الدين عليه.


في تسجيل لابن لادن نشرته رويترز عام 2007، ذكر بن لادن بأن تلك الهجمات حرفت أمريكا عن مسارها بقصد استنزافها، و هذا جيد كهدف، و لكن السؤال المطروح بعد ذلك: ثم ماذا؟ من سيستفيد من استنزاف الولايات المتحدة؟ هل المسلمون مستعدون للقيادة؟ هل لديهم العلم و الاقتصاد؟. الآن و بعد عشرون سنة، المستفيد الأكبر هو الصين، استغلت انشغال الولايات المتحدة خلال العقد الأول من الألفية بحروبها و قامت باختراق الأسواق العالمية و أرسلت ملايين الطلاب للابتعاث و صنعت قوة عالمية اعتمادا على الاقتصاد و العلم .

غاب عن بن لادن أن أمريكا دولة تقود العالم بدون منافس في ذلك الوقت، و أن خسارتهم من تلك الهجمات أو الحروب التي خاضوها انتقاما، سيعالجونها بطريقة أو بأخرى، و هذا ما حدث حيث قامت أمريكا بغزو دولتين تبعد عنها آلالاف الأميال، أفغانستان و العراق، ثم انحسبت من كلا الدولتين، و ما زالت افغانستان و العراق تكافح شعوبها لكي تأكل و تعيش.

غاب عن بن لادن أن الدول العظمى لا تنهار بسبب عنتريات الجماعات، قد تستنزفها قليلا و لكن الحروب الصغيرة بالنسبة للدول العظمى بالإمكان التعايش معها و هذا ما حدث. قد يحسب لابن لادن مساهمته في التمدد العسكري لأمريكا و الذي يعتبر من أكثر أسباب سقوط الدول العظمى بحسب بول كنيدي في كتابه الشهير (صعود و سقوط القوى العظمى)، و لكن أمريكا منتشرة عسكريا في كل بقاع العالم قبل تحركات بن لادن. و ما زالت أمريكا تحافظ على هيمنتها العسكرية و الاقتصادية و السياسية و ذلك بعد 20 سنة من هجمات برجي التجارة العالمي و حربي أفغانسان و العراق.

لماذا أمريكا؟

و على افتراض أن الولايات المتحدة تحارب المسلمين و تقتلهم. ماذا تفعل الصين حاليا بمسلمي الإيغور؟ و ماذا تفعل إسرائيل بالمسلمين في فلسطين؟ و ماذا فعل الصرب في مسلمي البوسنة؟ بل ماذا فعلت بورما بالمسلمين و هي دولة ليس لها وزن؟. تلك الحروب لن تنتهي و من السذاجة الاعتقاد أن تلك القوى ستقدم للمسلمين امتيازات سياسية و اقتصادية و عسكرية بمجرد تنفيذ حفنة من الهجمات ضدها.

و بناءاً على الوضع الحالي و التنافس الدولي بين الصين و أمريكا، على افتراض أن أحدهما تفرد بالسيادة أو أن كلتيهما تسيدتا العالم؟ أين المسلمين في المعادلة؟ هل سيستمر المسلمون في استهداف الدول العظمى بأسلحة و علم و اقتصاد مستورد من تلك الدول؟ هذا يثبت أن القوة كائنة و ستكون للدول و الأحلاف المتحدة و السامية فوق خلافاتها و المتطورة علميا و اقتصاديا، و ليس لمن يناوش من هو في القمة.

قد تقول بأن حربي أفغانستان و العراق ستحصل بدون هجمات 11 سبتمبر، و قد يحصل ذلك فعلا، و لكن ما الحاجة لتلك الهجمات إذاً، إذا كان بمفهوم بن لادن تعجيل السقوط الأمريكي في مستنقعات الحروب فهذا أيضاً يعجل بالخسائر لبلاد الإسلام في نفس الوقت، و قد يجعل من العودة للحضارة أمراً صعباً. ثم ألم يكن من الأجدى الحفاظ على أرواح المسلمين و مصالحهم و أموالهم، كيف سيكون موقف و قدرة الولايات المتحدة إذا قامت بذلك بدون مسوغ كبير كهجمات برجي التجارة؟ بل أكاد أجزم أن النفع على المسلمين سيكون أكبر و الضرر أقل إذا قامت الحربين بدون مبرر قوي.

أين الاستعداد؟


كل الأسحلة و المعدات و السيارات من تصنيع الكفار الذين تحاربهم، و صناعتها تحتاج لعلم و علماء و اقتصاد و علاقات دولية، فمصيرك هو التعامل مع الغرب الذي تهاجمه في كل مكان، و ذكرنا سابقا أن الصين بنهضتها اعتمدت على الغرب بشكل كبير جداً. أم هل يريد أتباع هذا الفكر أن نبدأ من الصفر لكي نلحق العالم بعد قرون؟ إن تركيز الجهود على التنمية و العلم و التطور كما فعلت العديد من الدول هو الذي يصنع الفارق في هذا الزمن، فاليابان دمرت في الحرب العالمية الثانية و ركزت جهودها على التنمية و العلم و التطور و أصبحت حاليا جاهزة لتصنيع كافة أنواع الأسلحة إن لم تكن بدأت بذلك. كوريا الجنوبية أيضا فعلت نفس الشئ طورت من نفسها و غزت صناعاتها و ثقافتها بلاد العالم.  (دور النهضة الاقتصادية في صعود الدول)


هل يعرف أسامة الآية رقم 60 في سورة الأنفال ((وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ))، ما هي القوة التي أعددتها لقتالهم؟ يقول الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية:
(أي ‏{‏وَأَعِدُّوا‏}‏ لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم‏.‏ ‏{‏مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي‏:‏ والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير‏.‏ ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ (‏ألا إن القوة الرَّمْيُ‏)‏ ومن ذلك‏:‏ الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ‏}‏ وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته‏.‏ فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورا بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب وقوله‏:‏ ‏{‏تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْْ‏}‏ ممن تعلمون أنهم أعداؤكم‏.‏ ْ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ‏}‏ ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به ْ‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُهُم‏}‏ْ فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم) انتهى كلامه رحمه الله.


و هنا ذكر الشيخ في تفسير هذه الاية أمرين مهمة، ألا و هي قتال من يسعى لقتال المسلمين و ليس البدء بالعدوان خصوصا اذا كان فيه معاهدات و صلح و مصالح بين الطرفين لأن المسلمين ليسوا نقاضين عهود.
و الأمر الثاني الذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الاستعداد بكل ما فيه مصلحة للمسلمين و ذكر من ذلك السياسة و الصناعة و العلم و التطور، فمن السياسة مثلاً (و الذي تم إبان سحب الجنسية السعودية من أسامة بن لادن)، أن حدثت في تلك الفترة حرب البوسنة المدمرة، و ظُلِم المسلمون و قتل منهم الكثير و انتهكت أعراضهم، المثير هو استخدام الملك فهد رحمه الله نفوذه السياسي لكي يساهم بالضغط على حلف الناتو و على الرئيس الأمريكي بيل كلنتون ليقوم بضربات جوية على الصرب في معقل دارهم و على قواتهم المُحاصرة لسراييفو و إحلال قوات أرضية من حلف الناتو ! مما ساهم في تغيير دفة الحرب و التعجيل بنهايتها و ما زالت صربيا تعاني إلى اليوم من آثار تلك الضربة الجوية. و هنا مقطع فيديو يوضح فيه الرئيس الأمريكي بيل كلنتون ذلك. أما بخصوص التطور التقني و التكنولوجي، فأهمية ذلك تتضح أكثر كل يوم، أصبحنا نرى طائرات بدون طيار تقوم بإطلاق صواريخ موجهة عن بعد، و دخلنا مرحلة الحروب النفسية و التي تُعنى بهندسة هزيمة و انهيار الدول بواسطة إذكاء الخلافات بين الأشقاء و الفرقاء و تثبيط الهمم للشعوب، و غير ذلك. و تلك الأسلحة لن تبنى إلا بالتطور.

استخدام السياسة لنصرة المسلمين في البوسنة

الاستغلال السياسي للجماعات

ألم يدر في خلد ابن لادن أنه قد يكون تم استغلاله و مقاتليه سياسيا كما ذكرت العديد من التقارير و الوثائق بأن إيران و سوريا ساهمتا في الحفاظ على حالة الحرب في العراق سواءا بتسهيل تمرير المقاتلين من أراضيها كما في حالة سوريا (مقابلات مع داعشيين تم القبض عليهم في العراق) أو يإيواء و دعم المقاتلين كما فعلت إيران (رسائل ابن لادن المصادرة 2011 و اعترافات أعضاء من القاعدة)، و ذلك اعتقادا من الدولتين بأن الولايات المتحدة لن تتوقف عند العراق بل ستهجم عليهما تالياً. فكان خيارهما جعل العراق مستقنعا للقوات الأمريكية يصعب الخروج منه. و حري بالإشارة هنا ما ذكره بعض المحللين بأن عدم الاستقرار الذي تغذيه هجمات القاعدة ساهم في صعود حزب الله العراقي و جماعة الحوثي في اليمن.

أما فيما يخص الدول الإسلامية نفسها، فالرسائل المصادرة من منزل بن لادن (رسائل أسامة بن لادن)، أثبتت أنه لا يوجد ارتباط بين كثير فروع القاعدة و مركزها الممثل بابن لادن في ذلك الوقت، منها على سبيل المثال رسالة صريحة من الفرع الأندونيسي بذلك، يتبادر للذهن سؤال، ماذا تفعل تلك الفروع و الجماعات في دول مسلمة مستقرة عديدة؟ هل الهدف هو زعزعتها أو قلب الحكم فيها ؟. في نفس الرسائل، يذكر ابن لادن بأن مرحلة ما بعد أفغانستان ستكون ولاية إسلامية في العراق و دولة إيران ستقوم بدور مساعد عن طريق تمرير المقاتلين و الرسائل و المعدات من أفغانستان، بودي أن أسأله وقتها هل كان يظن أن إيران ستوافق على صعود ولاية إسلامية يحكمها السنة على حدودها و تنازعها في ما تعتبره قيادة العالم الإسلامي؟. و حتى لو نجح ابن لادن فيما نجح فيه البغدادي و هو تكوين دولة الخلافة في ٢٠١٤، ماذا سيحدث بعدها؟

عدم وضوح الرؤية

إذا كان الهدف من البداية هو إخراج إسرائيل من المنطقة، لماذا لا يتم الهجوم عليها مباشرة؟، و إذا كان الهدف إخراج النصارى من جزيرة العرب، فالنصارى و المشركين و اليهود كانوا موجودين على عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و عقد معهم عهودا، بل أنه كان يبيع و يشتري معهم و كان يخدمه صبي يهودي، لأن رسول الله حريص على إسلامهم و يعاملهم بالحسنى، و النصارى الموجودين في جزيرة العرب حاليا يخدمون المسلمين و أعطاهم ولي الأمر العهد و الأمان، إذا كان ابن لادن لا يروقه ذلك فقد استأثر بتفسير الدين و الإسلام بنفسه و جماعته و هذا ما حدث عندما قام بتكفير ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية و تسفيه العلماء الراسخين لأنهم لم يستجيبوا لطلباته!.

في تسجيل آخر لأسامة يقول فيه أن من نصب الحكام المسلمين و منهم حكام الخليج هم الصليبين و هم من أتوا بالملك عبدالعزيز من الكويت ليخرج على ابن رشيد والي العثمانيين !. هنا لا أعرف هل هو يكذب أو هو فعلا ساذج و لا يستوعب كيفية تطور المجتمعات البشرية و تبدل أحوال الدول!. هل كان يظن أن الدولة العثمانية ستستمر حتى يوم الدين؟ كثير من دول المسلمين تشكلت بعد تبين ضعف الدولة العثمانية، بل إن الدول العثمانية كان لها علاقات وثيقة مع دول كافرة، هل كان حلالا عليها ذلك؟ بل إنه في أواخر عهدها ساهمت باستعمار بعض الدول من قبل الدول الأوروبية.

في تسجيل صوتي لابن لادن في عام 2009 وجهه بشكل أساسي للشعوب الأوروبية، يُظهر فيه ابن لادن تناقضا مضحكا و مثيرا للحنق، حيث يقول:
((لا يخفى عليكم أن الأفغان ذاقوا الأمرين خلال عقدين على أيدي الروس و عملائهم الشيوعيين و لكنهم صبروا و قاتلوا و ثبتوا و انتصروا بفضل الله، و قبل أن تندمل جراحهم و تنتهي أتراحهم، غزتهم حكوماتكم الظالمة بغير حق، بلا تدبر و لا تَفَكر في زعم بوش أن هذا الغزو رداً على أحداث الحادي عشر، بينما أن الحقيقة ما ذكرت سابقا أن أحداث مانهاتن كانت ردا على قتل التحالف الأمريكي الإسرائيلي لأهلنا في فلسطين و لبنان و أنني المسؤول عنها و أؤكد أن جميع الأفغان حكومة و شعبا لا علم لهم البتة بتلك الأحداث و أمريكا تعلم ذلك)). هل تلعب مع الغرب لعبة القط و الفأر؟ لماذا تبدأها من الأساس؟ إذا كان هدفك من كل ما فعلت هو تحرير القدس، فلماذا لم تهاجم الكيان الصهيوني نفسه مباشرة!؟ أنت كمن يترك القاتل يسرح و يمرح و تقول أنك ستعاقب إخوة و عائلة القاتل لأنهم يوفرون له المأوى و الدعم!. و جهاد الدفع يكون في نفس المكان الذي انتهكت حرمته و هوجم أهله، و ليس باستجلاب القوى الظالمة لأماكن أخرى بحجة الدفاع عن مسلمين في مكان آخر.

ثم يقول: ((إنكم في هذه الحرب جمعتم بين ظلمين، الأول أن هذه الحرب شنت على الأفغان بغير حق و لم يكن لديكم دليل واحد يصلح أن يقدم للمحكمة فضلا عن أنكم قد دمرتم معسكرات القاعدة و قتلتم بعض أفرادها و أسرتم آخرين معظمهم من باكستان فما ذنب الأفغان لتواصلوا هذه الحرب الظالمة عليهم؟ ليس لهم ذنب إلا أنهم مسلمون و هذا يوضح مدى حقد الصليبين على الإسلام و أهله)). عن أي محكمة تتحدث؟! ألم تهاجم الأمم المتحدة و تحكم بكفر من يطرق بابها لحل الخلافات!؟.

ثم يكمل بقوله: ((ثانياً: إنكم في هذه الحرب لم تلتزموا بأخلاق الحروب و آدابها، فمعظم ضحاياكم نتيجة القصف من الأطفال و النساء عن عمد و تعلمون أن نسائنا لا يقاتلون و إنما تستهدفونهم حتى في أيام الأفراح عن علم و إصرار رغبة في كسر معنويات المجاهدين و هذا لن يجدي لكم نفعاً فإننا ثابتون و ماضون بفضل الله سبحانه و تعالى على الانتقام من الظالمين و طرد الغزاة المحتلين. و لقد شهدت أحداثا من هذا القبيل و ما زال الأمر مستمرا بشكل شبه يومي و المستشفيات مليئة بالأبرياء فلا دين و لا خلق و لا إنسانية و لا حياء)). سبحان ربي، ألم تقم و أتباعك باستهداف المدنيين في هجمات برجي التجارة العالمي؟ و هجمات لندن و مدريد. بل إنك ذهبت أبعد من ذلك و هاجمت المعاهدين بل و حتى المسلمين بعدة تفجيرات و عمليات في داخل المملكة العربية السعودية. الآن تتحدث عن الإنسانية.


و ينهي بكلام موجه للشعوب الأوروبية مباشرة: ((أذكركم بأن المد الأمريكي آخذ في الانحسار بفضل الله و سيرحلون إلى ديارهم وراء الأطلسي و يتركون الجيران لتصفية حساباتهم مع بعضهم فمن الخير لكم أن تأخذوا على أيدي ساساتكم الذين يتقاطرون على عتبات البيت الأبيض و تعملوا جاهدين على رفع الظلم عن المظلومين فالعدل صواب و الظلم عذاب و الرجوع إلى الحق سمة أولي الألباب)). تهاجمهم مرة و تقتل منهم ثم تنصحهم بالضغط على قادتهم لإيقاف الحرب و أنهم لا يستحقوا تلك الهجمات و إنما حدثت بسبب سياسييهم! هل تتوقع أن الشعوب الأوروبية ستقول: ((أوووه، لقد كنا مخطئين و أسامة بن لادن على صواب، يجب علينا أن نضغط على قيادتنا للانسحاب و إيقاف الحرب)). ما هذه السذاجة؟ و هل أنت تتكلم نيابة عن كل من يهاجم الدول الغربية؟ إذا كانت فروع القاعدة نفسها استقلت عنها فما بالك بغيرها.

و يستمر هذا التناقض بتسجيل آخر في 2010 باسم (وقفات مع العمل الإغاثي) يقول فيه: ((أن ضحايا التغير المناخي أكبر بكثير من ضحايا الحروب بحسب الدراسات)) و يذكر من ذلك الجفاف و الفيضانات التي تضرب باكستان، و ينادي فيه المسلمين لنجدة إخوانهم ضحايا الفيضانات في باكستان، و يقترح إنشاء هيئة إغاثية إسلامية دولية، و من مهامها دراسات مواقع البيوت و أماكن السكن و يضرب مثالا بما حدث في مدينة جدة من فيضانات في عام 2009، و يستمر بتقديم المشورة بكيفية إدارة الأمن الغذائي و الطرق المثلى للاستثمارات الزراعية و التنموية، و كلامه كثير و لا يتعدى في أفضل الأحوال أن يوصف بالتنظير المنفصل عن الواقع. إن من أهم أسباب التنمية و الحفاظ على أرواح المسلمين هو وجود الاستقرار، فالحروب تستنزف البنية التحتية للمدن و تدمرها، و في خضم الصراعات المسلحة لا تكون التنمية ذات أولوية للمتنافسين على السلطة.

ما هو الوضع اليوم؟

بنظرة متفحصة على الوضع (الجهادي) في العالم اليوم، نجد عشرات و مئات الجماعات المتوافقة حينا و المتنافسة بل حتى المتحاربة بينها حيناً آخر. و بنظرة أخرى على الولايات المتحدة، ما زالت بقوتها و جبروتها، و نظرة أخيرة على شكل العالم، صعود قوة الصين و استمرار المشاكل و الحروب في العالم الإسلامي. في تسجيل آخر لابن لادن في نفس العام (بن لادن يدعو القاعدة لنبذ التعصب وتحكيم الشرع)، كان ينصح فيه أمراء الجماعات المجاهدة بأن ينبذوا خلافاتهم و يكونوا تحت راية واحدة و المسلمين في أرجاء العالم ينتظرون ذلك ليكون عام الجماعة، هل نسي بن لادن ما حدث من تنافس و خلافات في أفغانستان بعد خروج السوفييت؟ و هل غاب عنه تضارب الآراء الذي حدث في فلسطين و الجماعات الجهادية المختلفة؟ و هاهو نفس الوضع يتكرر لدى الجماعات في العراق. الاعتقاد بأن مجموعة من الجماعات المختلفة ذات الانتماءات المتشابهة أو المختلفة و التي تتبع إما مدارس فقهية مختلفة أو حتى تسير على فتاوى رجال دين مختلفين، ستجتمع تلك الجماعات و تتنازل كل منها ليكونوا تحت راية واحدة هو اعتقاد ساذج و يخالف الطبيعة النفسية للبشر. و رأينا في السنوات القليلة في سوريا كيف تتنقل الولائات من طرف لآخر. لذا فوجود راية واضحة منذ البداية و يرعاها ولي أمر البلد هو أمر أساسي في عقيدة الجهاد الصحيحة. و لا يمكن أن يحصل ذلك بجهود فردية أو بجهود جماعات تتفق أحيانا و تختلف أحيانا أخرى. فوجود راية واضحة للجهاد بقيادة واحدة (بحيث لا يكون هناك اجتهادات مختلفة) يزيد من احتمال النصر و هذا من شروط الجهاد بنوعيه الطلب و الدفع، بالإضافة لوجود مصلحة راجحة بالنصر، فالقتال في معركة يتضح فيها الهزيمة من البداية هو تبديد للأنفس و القدرات و تعزيز لتفوق العدو.


و عن الإسلام السياسي الذي تفرع منه العديد من تلك الجماعات الجهادية و الولائية، فبعد عشرات السنين من صعود القوى الإسلامية السياسية للمشهد، تلك القوى التي نصبت نفسها أمينا على الأمة و أعطت لقادتها الحق في تقرير ماذا يحدث في كل مكان على الكرة الأرضية، ماذا حققت؟ على الجانب الشيعي، إيران و وكلاؤها في العراق و لبنان و اليمن، تلك الدول تعيش فقرا مدقعا و مشاكل اجتماعية و سياسية و اقتصادية. و على الجانب السني، انهارت و تفتت الجماعات و سيطر الأكثر تشددا على القيادة مما انعكس بالضرر عليها. و هذا ينطبق على كل الدول و الجماعات التي أعلنت بطريقة أو بأخرى أحقيتها في قيادة المسلمين.

و إن كانت تلك العقيدة تضاءلت لدى أتباع المذهب السني، إلا أنها مازالت قوية في المذهب الشيعي خصوصا مع تواجد سلطة دينية صريحة على سدة الحكم في إيران، و نجاحها في اختراق عدة بلدان عربية بحجة المقاومة و بحجة تحرير القدس و محاربة أمريكا رأس الكفر و الشيطان الأكبر (و هي نفس حجة القاعدة، و المضحك المبكي أن الكيان الصهيوني لم يتم استهدافه إلا بمفرقعات صبيانية لأهداف تسويقية). و بالإمكان رؤية التهديد الواضح لمن يخالفهم و يصل ذلك للاغتيال حتى لو كان من جماعتهم فلا مكان لرأي إلا رأي واحد فقط و يصدر من الولي الفقيه لكافة وكلاؤه في هذه الدول، فلقمان سليم الشيعي اللبناني صاحب الرأي المعارض لسياسات حزب الله تم اغتياله لأنه خالفهم و صرح بذلك و مثله الكثير، و شباب ثورة تشرين في كربلاء تم اغتيال قادتهم لأنهم يعارضوا التوجه المراد للعراق أن يسير عليه من قبل السلطة في إيران.

و رأينا في حرب غزة في رمضان 2021، و كيف انهالت صواريخ حماس على البلدات الإسرائيلية و لم يتم إلا إطلاق صاروخين من جنوب لبنان سارع حزب الله لنفي ضلوعه في إطلاقهما، رغم أن إيران و حزب الله قد عملوا احتفالات قبل ذلك بأيام يقولوا فيها (القدس أقرب). تلك المعركة كانت أشد معركة عاشها الكيان الصهيوني بشهادة جيشه و أكثرها إثارة لرعب ساكنيه، و رغم ذلك لم يستغل محور المقاومة و الممانعة تلك الفرصة السانحة و إنما وقف متفرجاً رغم أن كل خطاباته و أولوياته – كما يزعم – تتمحور حول القدس و تحريرها!

ما هو وضع إسرائيل الآن؟ و ما هو وضع لبنان؟

و الملاحظ في كثير من الدول الإسلامية انهماكهم في توفير لقمة العيش و انغماسهم في الحروب و الخلافات بينهم و على رأسهم دول و جماعات الإسلام السياسي، ألم يكن من الأجدى التركيز على نبذ الخلافات و حل المشاكل و مساعدة المسلمين ليعيشوا عيشة كريمة يتمكنوا فيها من العبادة و التعلم الصحيح لدين الله؟. ألم يعلم هؤلاء بأن الجوع و الخوف من جنود الله كما يقول سبحانه في سورة النحل آية 112: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )).

على النقيض من ذلك …


على الجانب الآخر، الدكتور عبدالرحمن السميط عاصر نفس الحقبة الزمنية و تأثر عمله بأحداثها و لم يثنه ذلك عن أهدافه. و لم تكن لديه تلك الإمكانيات المالية الضخمة كالتي امتلكها (أعداء الشيطان الأكبر). ذلك الرجل الذي قال في برنامج ساعة حوار مع فهد السنيدي: ((أنا لست بداعية و لا مجاهد و لا عَلَم، أنا إنسان في أول الطريق نحو الدعوة، قاعد أتعلم و الجهاد أكبر مني)) و مع ذلك أجمع المسلمون على حبه و تقديره و تثمين جهوده و من معه.

في حديث لمجموعة من ممثلي العمل الخيري و الجمعيات التي تستهدف فقراء المسلمين لإطعامهم و تعليمهم و تحسين ظروفهم الحياتية، يقولون بأن تلك الأعمال ضيق عليها بل إن بعض تلك المؤسسات صنفت على قوائم تمويل الإرهاب و إن لم تكن كذلك (تأثر الجمعيات الخيرية بهجمات 11 سبتمبر)، كل ذلك حدث بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، و تسبب ذلك في توقف العديد من المشاريع و الدعم الموجه لإخوتنا المسلمين في شتى بقاع المعمورة. و تطور الأمر لأن يتوقف بعض المحسنين عن تقديم التبرعات إما لشكوكهم بمصارفها أو لكون طرق التبرع أضحت أكثر تعقيداً و محاسبة. و من تلك الجهات التي تأثرت جمعية العون المباشر التي أسسها الدكتور عبدالرحمن السميط كما ذكر في برنامج بلا حدود مع أحمد منصور، و إن كان تأثرها أقل من غيرها بسبب إجراءات الحوكمة القوية التي تبنتها الجمعية، و التي وضحت ووثقت أعمالها.

 كان ميدان جمعية العون المباشر الرئيسي هو قارة أفريقيا، حيث احتوت تلك القارة على ملايين البشر من مختلف الديانات و الخلفيات الذين يموتون بسبب سوء التغذية و نقص الأدوية، و ملايين آخرين مسلمين و لا يعرفون من الإسلام إلا لفظي: محمد و مكة. قاوم السميط و فريقه جهود التنصير الغربية و لكن بطريقة أخرى و تسبب عملهم في إسلام جزء من المنصرين أنفسهم. و لم يحصروا أعمالهم الخيرية بالمسلمين أو بمن يسلم فقط، بل ذكر السميط في أكثر من مناسبة بأنه يزود الجميع بالغذاء و الدواء لأنه الله سبحانه أمر بالإحسان للإنسان بدون تفرقة و الإحسان للغير هي إحدى ركائز الدين القويم، (أثر الإحسان للجميع) حيث يقول: ((الدين المعاملة، أحسنوا معاملة الناس تكسبوا قلوبهم، و إذا كسبتوا قلوبهم تكسبوا كل شيء)). و أكد السميط في مرات كثيرة أنه لا يُجِبر أحداً على اعتناق الإسلام، و لا يقايض المساعدات بالدين، فالمساعدات مستمرة و المدراس مفتوحة للجميع و الآبار تغذي الجميع بالمياه. بل إنه ذكر في برنامج بلا حدود أنه تعاون عدة مرات مع المنظمات المسيحية الإنسانية كما وصفها. تلك المعاملة الحسنة أدت لكل تلك النتائج الإيجابية الكبيرة. و أهمها دخول الناس أفراداً و جماعات في دين الله، ووصل عددهم إلى 11 مليون، و هو رقم هائل يعادل سكان دولة. و غير ذلك من الإنجازات المليونية على كل المستويات، سواءا بنشر الدين أو تعليم المسلمين أو تحسين الظروف المعيشية أو نشر ثقافة العمل و زرع قيمة الإحسان للغير و غيرها.


تلك الجهود المختلفة التي قام بها السميط و فريقه و داعميه، كان من أهمها إنشاء أربع جامعات تضم مختلف التخصصات و لم تقتصر على تعليم الشريعة الإسلامية و اللغة العربية، بل تعدى ذلك لتشمل تخصصات الفيزياء و الرياضيات و الهندسة و الطب و القانون و غيرها، و ذلك لإيمانهم بأن التعليم الدنيوي و تنمية الإنسان و تطوير المجتمعات لا مناص منه في هذا الزمن لصناعة لبنات التقدم للمسلمين، و لا أدل من ذلك جواب السميط في إحدى المقابلات عن سؤال وجه له بخصوص خططه بعيدة المدى في أفريقيا فقال: (( التعليم ثم التعليم ثم التعليم)). و في مقابلته مع الدكتور فهد السنيدي لبرنامج (صفحات من حياتي) أيضاً ذكر أن أهم أهدافهم تعليم الناس التعليم الشرعي ليقيموا أمور دينهم و التعليم الدنيوي ليقيموا أمور دنياهم و يغيروا من واقعهم المرير، و يتحلوا بقيم الشريعة و التسامح و الاعتدال و الكدح و تحسين ظروف حياتهم و حياة أبناء مجتمعاتهم.

مثال على تحسين أوضاع المسلمين و تعليمهم



رحم الله الدكتور عبدالرحمن السميط و أعلى منزلته، عرف ما هو دوره، و كيف يساعد غيره لتحقيق الهدف الأسمى من الوجود و هو عبودية الله عز و جل كما قال سبحانه: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)). و مع الأسف أصبحنا بحاجة أناس مثله ليقوموا بذلك الدور في مجتمعات أقرب بسبب التدهور المعيشي و الفساد و التطرف و اختلاط المفاهيم و نسيان أو تناسي الدور الحقيقي للمسلم في هذه الحياة.

أخيراً ..


خلاصة الأمر، قام عبدالرحمن السميط باختراق أفريقيا و نشر العلم و العمل فيها، و انتشال مجتمعات بأكملها من براثن الفقر، و أنشأ منارات للتعليم و التطور، اتباعاً لقوله تعالى: ((وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا))، كان دافعه هو الإحسان للإنسان و تنميته (الدين المعاملة). أما نتائج ما فعله أسامة، فآلالاف المسلمين قتلوا بدعوى الانتقام من الغرب، و ملايين تم تعريض حياتهم للخطر، بلدين إسلامية تم احتلالها لملاحقتهم و من يسير على فكرهم و النتيجة انهيار تلك البلدين و تبعات ذلك واضحة للعاقل الحصيف. في علم الإدارة الحديث، هناك أهداف استراتيجية بعيدة المدى و أهداف مرحلية تكتيكية متوسطة و قصيرة المدى، و يجب أن تكون الأهداف المرحلية تؤدي بالضرورة للهدف الرئيسي، يبدو في حالة أسامة و أقرانه أنه لا يوجد ربط بينهما و أحياناً لا يوجد أهداف أصلاً.

 و بعد عقود على بدء تلك المرحلة، أصبح العالم الإسلامي أكثر فقراً و تشثياً و انهياراً. و هذا الكلام ليس دعوة للمهانة و الاستسلام، بل هو دعوة للمساهمة في عودة المسلمين و لتطورهم بواسطة الطرق الأكثر تناغماً مع الواقع و التي تخدم الهدف الأسمى. فأسهل تبرير هو رمي المسؤولية في ضعف المسلمين و هوانهم على العالم الغربي، بدون بحث حقيقي عن أسباب ذلك، و الأخطر هو أن يتشرب قطاع عريض من المسلمين تلك الدعاوي و يبتعدوا عن العمل و البناء و تحمل المسؤولية، و يتهموا بالتخاذل إخوانهم المسلمين الذين اختاروا طريق العلم و التطور و التنمية سبيلاً لإعلاء شأن الإسلام.

أضف تعليق